يوم الكوشة والمحناية وولادة عشائر البومحمد
حدثني والدي عن والده عن اجداده قال:
في زمن بعيد كانت مضارب الشيخ (محمد) الفريجي وابناء عشيرتة تمتد على شواطئ نهر دجلة الخالد وتفرعاته الكثيرة وسهول العمارة المعطاء وهم يمارسون الزراعة ورعي المواشي وربما يخترقون (الحدود) نحو ايران باتجاه الطيب ونهر الطيب والمراعي هناك حيث لا حدود حقيقية بين البلدين ولوجود عشائر عربية كثيرة في عربسان المجاورة ...
وكان ( مضيف ) الشيخ محمد الفريجي يقع على حافة النهر مباشرة وهي طريقة معروفة لتسهيل استقبال الضيوف والشيوخ الاخرين الذين كانوا يسيعملون القوارب وسائط نقل في تلك المناطق...
وكان الشيح محمد الفريجي اشهر من نار على علم ويتمتع بسمعة ومكانة بين الجميع ويمتلك اراضي شاسعة وقطعان غنم كبيرة يقوم برعايتها رعيان عديدون، ولا ينكر احد من عشائر ميسان ان الفريجات هم اهلها وهم اول من سكنها واول من سماها هو فرج بن (عمارة) الربيعي العدناني ..
وكانت عشائر (العزة) العربية الاصيلة تسكن على ضفاف نهر ديالى في وسط وشرق العراق وتمدد شمالا وجنوبا باراضيها الشاسعة وبساتين برتقالها وفواككها وكانها جنان على الارض ... وبعد ذلك يصب نهر ديالى في نهر دجلة جنوب بغداد لينحدرا سوية الى الكوت ثم العمارة.
وفي حادثة عشائرية معروفة هناك قام شخص هو ( محمد ) من عشيرة عزة بقتل احد افراد عشيرته وبعد ان تمت تسوية الامور ودفع الدية تقرر ان ( يجلي) من مضارب عشيرتة وهي عادة معرفة عند جميع عشائر العراق.
فما كان منه الا ان ركب قاربه وحمل معه امه واخته وسار مع تيار نهر ديالى ...
واستقر به الحال في نهر دجلة ومر بمدن وقرى كثيرة لكنه لم يختر النزول عند احد الا لايام معدودة لغرض الراحة او الطعام وفي الحقيقة لا نعرف كم طالت هذه الرحلة وما هي احداثها الحقيقة... الا انه حين وصل الى مشارف العمارة سأل عن اهم عشائرها وشيوخها ربما لانه كان يبحث عمن يجيره او ينزله عنده ... لان موضوع هجرته غير معروف الاسباب سوى موضوع قتل احد اقربائه ... وربما هو (مطلوب دم) ايضا..
وقد اشار عليه بعض الناس بان يذهب الى شيخ الفريجات محمد فانه سيجد من كرم الضيافة ما يليق به..
وكاستنتاج منطقي : يبدو ان محمد العزاوي كان شيخا او ابن شيوخ ولذلك رفض ان ينزل عند كل من هب ودب وكان يبحث عن شخص جدير بالاحترام والتقدير ويعرف قدره ومكانته ليكون جارا له.
ولما وصل قاربه الى مضيف محمد الفريجي نزل ضيفا مكرما معززا... فبقي هو في مضيف الرجال وذهبت امه واخته الى بيت الشيخ مع نسائه.
ومنذ الوهلة الاولى شعر كل من الفريجي والعزاوي بارتياح لبعضهما فقد كان العزاوي شابا قويا متحدثا رائعا يعرف الكثير من القصص والحكايات عن ارضه وعشيرته وقد تعرف عليه ابناء الشيخ واخوته ...
وكانت العادة ان لا يسأل الضيف عن سبب قدومه الا بعد ثلاثة ايام ، فلما انقضت المدة سأله شيخ الفريجات عن ذلك فشرح له الموضوع بكامله ...
فعرض عليه محمد الفريجي ان ينزل عنده وان يعطيه ارضا لزراعتها ويبقى معهم ما شاء الله او يختار الرحيل
وهكذا بقي محمد العزاوي مع ابناء عشيرة محمد الفريجي سنة اوسنتين تبين خلالها شرف اصله ونسبه واخلاقة وحسن سيرته ..
وكان لشيخ محمد الفريجي ابنتان احداهما بمنتهى الجمال والحسن كثيرة العناية بنظافتها وتجميل وجهها ووضع الحناء على شعرها وكفيها وقدميها يفوح عطرها ويبهر شروق وجهها كل من شاهدها .. ولذلك تلقب ( المحناية)
اما الثانية فكانت عكسها تماما ... وكان ما يميزها هو عدم تصفيف شعرها ولذلك كانت تسمى (الكوشة).
وقد اعجب محمد العزاوي بالمحناية ايما اعجاب ... لكن كيف يتزوجها وابناء عمومتها بالمرصاد وهو امر دونه الموت الزئام ... فسكت طويلا حتى حان الوقت المناسب فتقدم بطلب يدها من والدها الشيخ محمد الفريجي
يقول التاريخ ان محمد الفريجي استجاب لطلبه بالزواج من احدى بنتيه وليس بالاسم تماما ... وربما شيء غير ذلك ، المهم ان محمد الفريجي قبل طلب محمد العزاوي .. ولم يكن عند العزاوي ما يقدمه مهرا للفريجي فطلب الفريجي اخت العزاوي لاحد ابنائه ( كصة بكصة).
ولما حان يوم الوعد المحتوم للزفة ذهبت ام محمد العزاوي مع الزافوفات .. واتين بالعروس الى بيت العزاوي بالهلاهل والغناء..
فيما كان الرجال من عشيرة الفريجات يعدون مادبة الطعام لظيفهم وعريسهم الكريم ولما انتهت المراسيم وسكن ليل ميسان الجميل دخل العريس على عروسه التي طالما تمناها وحلم بوصالها والتطلع الى جمالها وسحر عينيها كيف لا ... وقد صار الحلم حقيقة واقعة ... فيا لها من ليلة رائعة هذه لمحمد العزاوي الذي تغرب وحضى بكل شيء ارض وعشيرة وعروس جميلة بنت اكبر شيخ في العمارة .. انه شرف لا يضاهيه شرف اخر..
وما ان شاهد عروسه حتى عاد كئيبا مكسورا الى امه .. فعجبت من ذلك وسألت عن الموضوع فقال:
يا امي لقد اعطوني (الكوشة) وليس المحناية (*).
وكانت ام محمد العزاوي امرأة حكيمة عاقلة ففكرت في الامر مليا ... وكان حقها ان تعيد الفتاة الى اهلها بنفس الليلة كرد فعل على مثل هذا العمل الشنيع (**) ولكنها فكرت في عواقب الامور وان ولدها وحيد بين الفريجات والعصبية القبلية لا تبقي ولا تذر فخافت الفتنة وقتل ابنها فقالت:
يا بني نحن هنا غرباء فاقبل ذلك وكان قولها تماما: (فالنا وجبلنا) اي هذا هو فألنا وقد قبلنا...
فذهب قولها هذا ( مثلا ) كان ولا زال وسيبقى متداولا بين جميع عشائر العراق ويرتبط بصحة هذه القصة الخالدة.
ولما سكن العزاوي وعاد الى رشده عاشر عروسه في تلك الليلة ... وفي الصباح باركت له امه وقص عليها حلما رأآه في تلك الليلة: يا امي في عالم الطيف رايت ( سبعة زنابير كبيرة) تطير من فرج الكوشة وتحلق عاليا في السماء...
ففرحت امه وهلهلت وقالت: ابشر يا ولدي ستلد لك باذن الله سبعة اولاد سيكون كل واحد منهم شيخا عظيما وله سمعة تصل الى السماء (***).
ودارت الايام والسنين وولدت الكوشة ولدا وثانيا وثلاثا ... وسابعا وتزوجوا من بنات اخوالهم الفريجات ..
وتكاثروا حتى كان من الصعب التعرف على الفريجي من العزاوي عند باقي عشائر ميسان خصوصا ان اسم ابيهم واحد (محمد)... ولذلك اطلقوا على هذا التجمع الكبير اسم (آل بومحمد) الذي صار (البومحمد) ..(****)
*****************************
(*) من الصعب القول ان ام محمد العزازي وباقي النساء لم يعلموا بتبديل المحناية بالكوشة قبل زفافها... يبدو ان الامر غير واضح تماما. ثم كيف قبل ابناء عمها ذلك ، اللهم الا انه لم يكن لها اولاد عم وان الفريجي كان هو واولاده فقط ، وقد اصبحت الكوشة نخوة الفريجات (أنه أخو الكوشة)
(**) كان الموضوع (مكيدة) من زوجة الشيخ محمد الفريجي للتخلص من الكوشة قبل ان تنام على قلبها ولا تتزوج... اذ ليس من المعقول ان يخلف الشيخ وعده الذي قطعة على نفسه امام الناس وسمعت به كل عشائر ميسان.
(***) ولذلك اصبحت عشيرة البومحمد العزاوية سبعة حمائل.
(****) يبدو ان البومحمد في بداية الاحتلال العثماني حصلوا على معظم اراضي العمارة (باللزمة ) لان الفريجات كانوا هم اهل الارض ورفضوا الانصياع ودفع اللزمة للعثمانيين فاستعان العثمانيون بغيرهم.
****************************
هذا ما سمعته من والدي رحمه الله ... وبنانتظار ما لديكم حول الموضوع.
د. هاشم نعمة الفريجي.